الحدث
هل كانت أمنية بوتفليقة من القصر إلى القبر…؟
عاشَر كبار القرن وغادر مهزوما..إن الله وإنا إليه راجعون
توفي رئيس الجمهورية السابق عبد العزيز بوتفليقة دون أن يحقق أمنية بقائه رئيساً حتى وفاته من القصر إلى القبر ودون أن يتولى افتتاح مسجد الجزائر الأعظم الذي كان قد اهتم بإنجازه بشكل خاص ودون أن يفتتح مطار الجزائر الدولي الذي كان يرغب في أن يأخذ اسمه بعد وفاته.
في الثاني إبريل 2019 نشر الرئيس بوتفليقة رسالة استقالته من الحكم بعد عقدين من السلطة. لم تكن استقالته تلك تعففاً عن الحكم أو زهداً فيه فبخلاف ذلك كان بوتفليقة يرغب في الاستمرار بولاية خامسة كانت ستمتد حتى 2024 بل لتهدئة الشارع الغاضب الذي كان قد انفلت عقاله منذ 22 فبراير في حراك شعبي غير مسبوق في البلاد بحيث لم يعد ممكناً في خضمّ ذلك الثوران الشعبي الصاخب إجراء الرئاسيات التي كانت مقررة في إبريل 2019 وكتب بوتفليقة في رسالة استقالته يشرفني أن أنهي رسمياً إلى علمكم أنني قررت إنهاء عهدتي بصفتي رئيساً وذلك اعتباراً من الثلاثاء 26 رجب 1440 هجري الموافق لـ2 إبريل 2019 إن قصدي من اتخاذي هذا القرار إيماناً واحتساباً هو الإسهام في تهدئة نفوس مواطنيَّ وعقولهم لكي يتأتى لهم الانتقال جماعياً بالجزائر إلى المستقبل الأفضل الذي يطمحون إليه طموحاً مشروعاً.
-
بومدين… نقطة البداية
في 2 مارس 1937 وُلد بوتفليقة لعائلة جزائرية كانت تقيم لاجئة في وجدة المغربية وتنحدر أسرته من ضواحي تلمسان تلقى تعليمه في مدرسة ابتدائية فيوجدة، وأكمل تعليمه الثانوي في المدينة نفسها ولأن مدينة وجدة كانت تمثل قاعدة خلفية للثورة وتتمركز فيها قياداتها وجد بوتفليقة سبيلاً للالتحاق بالثورة واتخذ من عبد القادر اسماً حركياً له في 1957. أهّله تعليمه لتقوم هيئة قيادة الأركان التي كانت تتمركز في منطقة الحدود الغربية بتعيينه مراقباً عاماً ثم ضابطاً منتدباً وفي 1960 أرسل إلى الحدود الجنوبية وخلال وجوده في وجدة يضعه القدر في طريق هواري بومدين الذي اصبح لاحقاً رئيساً لأركان جيش التحرير وكان له دور في تعيين بوتفليقة عضواً في المجلس التأسيسيأول برلمان ثم وزيراً للشباب والرياضة وهو في الـ25 من عمره ضمن أول حكومة للجزائر المستقلة قبل أن يعيَّن وزيراً للشؤون الخارجية وهو المنصب الذي ظل يتقلّده حتى 1979 لكنه كان قد أدى قبل ذلك دوراً في انقلاب هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة في 19 جوان 1965 ليصبح هذا اليوم تصحيح ثوري وبقي الجزائريون يحتفلون به بوصفه عطلة رسمية إلى أن قرر بوتفليقة إلغاءه من لائحة العطل الرسمية عام 2002.
خلال فترة شغله وزيراللخارجيةاسهم بوتفليقة مستفيداً من الثقل الثوري في دعم القضية الفلسطينية وحركات التحرر في أفريقيا والعالم وخاصة قضايا الأبارتايد وفي الشيلي والأرجنتين وفي 1974 ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث طرد الوفد الإسرائيلي المشارك وأتاح الفرصة للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لإلقاء خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التي انتقلت إلى جنيف وأدى بوتفليقة دوراً بارزاً في ديسمبر 1975 في إنهاء معضلة عملية اختطاف مجموعة كارلوس للوزراء وموظفي أوبك من مقرأوبك في فيينا وكان بينهم وزير الطاقة عبد السلام بلعيد ووزير النفط السعودي أحمد زكي يماني حيث حُرِّروا في الجزائر.
-
بداية نشر الغسيل
في 27 ديسمبر 1978 توفي بومدين وتولى بوتفليقة تأبينه في الجنازة الرسميةوكان يطمح إلى خلافته في الرئاسة لكن قيادات انذاكاختارت الشاذلي بن جديد رئيساً بداية عام 1979 ليبدأ مع تغير هرم الحكم ابعاد رجال بومدين من السلطة وكان بينهم بوتفليقة الذي أُقيل من منصبه وحولت السلطة ملفه إلى مجلس المحاسبة الذي نشر قراراً رسمياً في صحيفةفي التاسع أوت 1983 يتهم بوتفليقة بالتورط في اختلاس أموال عامة قيل حينها إنها كانت مودعة فيصندوق دعم حركات التحرر التي كانت تدعمها الجزائر بسخاء بين 1965 و1978 وبلغت ملايين الدولارات.أرغمت هذه الظروف بوتفليقة على مغادرة البلاد حيث قضى سنوات بين جنيف ودمشق ودول الخليجخصوصاً الإمارات قبل أن يعود في يناير 1987 إلى الجزائر بعدما أقرّ الرئيس السابق الشاذلي بن جديد عفواً عنه عام 1986 وكان أول نشاط سياسي لبوتفليقة توقيعه برفقة 18 شخصية سياسية بياناً خلال أحداث 5 أكتوبر 1988 قبل أن يُدعى للمرة الأولى منذ ابعاده إلى مؤتمر حزب جبهة التحرير عام 1989 وانتُخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب في أعقاب انقلاب الجيش على الإسلاميين ووقف المسار الانتخابي في يناير 1992 حاولت المؤسسة العسكرية استغلال خبرته الدبلوماسية لكسر العزلة السياسية الدولية التي فُرضت على الجزائر وعرضت عليه منصب وزير مستشار لدى المجلس الأعلى للدولة هيئة انتقالية مؤقتة شُكِّلَت من 1992 إلى 1994 وحلت محل رئيس الجمهورية ثم منصب ممثل دائم لدى الأمم المتحدة، لكنه اعتذر عن عدم قبول هذا المنصب ومع نهاية عهد هذه الهيئة المؤقتة في ديسمبر 1994 اقترح عليه القادة الذين كانوا يمسكون بزمام السلطة منصب رئيس الدولة على أن يُنتخَب في مؤتمر وفاق وطني في إطار آليات المرحلة الانتقالية. لكن خلافات تتعلق بالصلاحيات حالت دون حصول توافق ونجح مجدداً في إقناع بوتفليقة عام 1998 بالترشح للرئاسة بعد إعلان الرئيس ليامين زروال تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة جرت في إبريل 1999.
-
عودة إلى السلطة
في الثالث من ماي 1999 تسلّم الرئيس بوتفليقة سدة الحكم بعد فوزه في انتخابات رئاسية مثيرة للجدل إذ كان منافسوه الستة قد اعلنوا انسحابهم يوم الاقتراع من السباق الانتخابي، ليبدأ بوتفليقة عهدته الرئاسية الأولى لاستكمال الإطار القانوني لاتفاق كانت قد عقدته قيادة المخابرات مع مسلحي الجيش الإسلامي للإنقاذ، لوقف العمل المسلح والنزول من الجبال مقابل عفو عنهم وأطلق قانون الوئام المدني بهدف “تحقيق السلم وإطفاء نار الفتنة في البلاد بعد عشر سنوات من الأزمة الأمنية الدامية وواجه بوتفليقة في عهدته الأولى أزمة عنيفة في منطقة القبائل عام 2001بسبب مواجهات بين السكان الأمازيغ والأمن، انتهت باعتراف رسمي باللغة الأمازيغية بوصفها لغة وطنية في 22 فبراير 2004 أعلن ترشحه لولاية رئاسية ثانية وقاد حملته الانتخابية مدفوعاً بالنتائج الإيجابية التي حققتها ولايته الأولى وأعيد انتخابه في الثامن من إبريل 2004 بما يقارب 85 في المئة من الأصوات ليطلق في ولايته الثانية مشروع المصالحة الوطنية كتطوير لقانون الوئام المدني وإيجاد إطار قانون لحلحلة مخلفات الأزمة الأمنية، كتسوية وضع المسلحين التائبين والمفقودين، لكنه أطلق أيضاً مشروعات تخص البنى التحتية وإصلاح العدالة والتربية والقوانين المنظمة للدولة والمجتمع والتعليم والعدالة والإدارة وإنعاش الاقتصاد مستفيداً من ارتفاع مداخيل البلاد التي بلغت في الخزينة العامة 198 مليار دولار استغل جزءاً منها في دفع كل الديون الخارجية للبلاد وقبل نهاية ولايته الثانية، في سبتمبر 2007 تعرّض بوتفليقة لمحاولة اغتيال، عندما فجّر انتحاري نفسه قرب موكب كان يقلّه خلال زيارته لمدينة باتنة شرقيّ الجزائر، وتبنّى تنظيمالقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” حينها هذه العملية.
-
ظل متمسكاً بالحكم
نجح بوتفليقة خلال ولاياته الرئاسية الأربع في الحد من نفوذ الكوادر البلاد وتمكن من إبعاد عدد من الجنرالات خصوصاً من حضروا احداث يناير 1992 وأبرزهم الجنرال محمد العماري وإسماعيل العماري ومحمد تواتي والجنرال محمد مدين المدعوّ الجنرال توفيق في 13 سبتمبر 2015. ومع كل عهدة رئاسية كانت شهوة السلطة تكبر وفي 2008 وجد بوتفليقة نفسه أمام مشكلة دستورية تمنعه من الترشح لولاية رئاسية ثالثة في الانتخابات التي ستجري في إبريل 2009 لكنه وجد الحل في عرض بتعديل جزئي ومحدود للدستور في نوفمبر 2008 يتيح له الترشح لولاية رئاسية ثالثة فاز بها مجدداً على الرغم من اعتراض عدد من القوى السياسية على تعديل الدستور. وفي بداية 2011 كانت دول عربية عديدة تعيش ثورات الربيع العربي فبادر بوتفليقة إلى احتواء احتجاجات انطلقت في عدة مدن جزائرية بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية بإعلان تعهدات بإصلاحات سياسية وتعديل دستوري محدود وفي 17 إبريل 2013 أصيب بوعكة صحية استدعت نقله على جناح السرعة إلى مستشفىفال دوغراس العسكري في ضواحي باريس حيث مكث 81 يوماً حتى جويلية 2013 لكنه ترشح رغم ذلك لولاية رئاسية في إبريل 2014 وفاز بها من دون أن يقوم بتجمّع انتخابي واحد غير أن ذلك كان مؤشراً على أن الرئيس دخل مرحلة تنقص فيها ممارسته الفعلية لصلاحياته السياسية، فيما كان نفوذ مجموعات سياسية بقيادة شقيقه السعيد بوتفليقة وكارتل مالي يجمع عدداً من رجال المال والأعمال يتوسع ويتمدد في البلاد ويهيمن على مقدراتها. وفي إبريل 2016، نُقل بوتفليقة مجدداً إلى مستشفى في سويسرا لإجراء فحوص طبية وصفتها الرئاسة بالدورية، ثم نقل في نوفمبر من العام نفسه إلى عيادة في غرونوبل لإجراء فحص طبي. قبل ذلك كانت صورة ظهر فيها بوتفليقة مع رئيس الحكومة الفرنسية حينها مانويل فالس في إبريل 2016 وهو شارد الذهن وفي وضع صحي متردٍّ قد صدمت الرأي العام في الداخل والخارج لكن بوتفليقة ظل متمسكاً بالحكم على الرغم من بروز مشكلات معقدة في البلاد.
-
فرصة تاريخية
ومع كل هذه الظروف وعلى الرغم من أنه كان قد غاب عن المشهد منذ أكثر من 9 أشهر وكان في فبراير 2019 موجوداً في مستشفى بسويسرا قرر بوتفليقةأو دُفع إلى الترشح لولاية رئاسية خامسة لكن الشارع كان قد انتفض ورفض مشروع الولاية الخامسة ومنع إجراء الانتخابات ومع ذلك أودع بوتفليقة ملف ترشحه لدى المجلس الدستوري في مارس 2019 لكنه اضطر إلى إعلان إلغاء الانتخابات في 11 مارس من السنة نفسها واقترح عقد ندوة وفاق وطني نهاية السنة لوضع خطة انتقال للسلطة لكن ضغط الشارع زاد بحدة وتراجع الجيش عن دعم بوتفليقة بدءاً من منتصف مارس قبل أن يطلب قائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح تطبيق المادة الـ 102 من الدستورإعلان الشغور ما دفع بوتفليقة إلى تقديم استقالته في 2 إبريل 2019قبل أشهر من وفاته كان اسم بوتفليقة يتردد في محاكمات الوزراء ورؤساء الحكومات حيث كان عدد منهم يحمّل وزر القرارات وقضايا الفساد لبوتفليقة. وبينما كانت هيئات الدفاع عنهم تطالب باستدعاء بوتفليقة للمساءلة أو بصفة شاهد على الأقل كان القضاء يرفض ذلك ويتجاوز الأمر نهائياً وبدا أن هناك خطاً أحمر من السلطة السياسية لعدم إقحام بوتفليقة في أي معركة قضائية سواء باعتبار القانون الذي لا يجيز لأية محكمة محاكمته أو باعتبار ظرفه الصحي أو لاعتبارات التفاهمات السياسية التي جرت عشية استقالته بشأن ضمان خروجه الآمن من السلطة حتى وفاته ليلة السبت كان الموقف الشعبي والسياسي من بوتفليقة يميل إلى اعتباره أحد أكثر الرؤساء الذين فوّتوا فرصة تاريخية لإقلاع اقتصادي وإنجاز سياسي على الجزائر في ظرف توافرت له كل العوامل والإمكانات المادية وكذا عوامل الهدوء السياسي ويستند هذا التقييم إلى سلسلة من الفضائح وتخمة من قضايا الفساد السياسي والمالي التي تفجرت بعد رحيله عن الحكم وانكشاف كارتل مالي كان متحالفاً مع المحيط السياسي المقرّب منه ونجح في الهيمنة على مقدرات البلد واختلاس المال العام ونهب العقارات وتعطيل كل أسباب النمو خلال مساره السياسي الطويل التقى بوتفليقة كبرى الشخصيات في القرن الماضي كجوزيف تيتو وجون كينيدي ونيكيتا خروتشوفوفيديلكاسترو وجمال عبد الناصر وزايد آل نهيان وفيصل بن عبد العزيز والحبيب بورقيبة وجواهر نهرو، وغيرهم. لكنه عدا حوارات سياسية مقتضبة لم يكتب أية مذكرات أو شهادات عن أحداث وقضايا محلية وعربية أو أوراق سياسية يمكن أن تمثل وثيقة للتاريخ وتعين الأجيال الجديدة والمؤرخين على فهم سلسلة من الأحداث أو تصويب مواقف وتلك خسارة كبيرة بالنسبة إلى التاريخ السياسي للجزائر.