عن الوطن والفرح والحزن والحب والأطفال والأم والحياة قدمت جارة القمر فيروز مشوارا غنائيا حافلا بالأغاني شديدة التنوع فشكلت وجدان جمهورها في الوطن العربي والذي يحتفل في نوفمبر بميلادها الـ86 وقد منحت العديد من الألقاب مثل جارة القمر والملكة والعمود السابع لبعلبك والأيقونة فظهورها واكتشافها الفني نهاية الأربعينيات ثم التألق في الخمسينيات جعل فيروز واحدة من الجيل الذهبي للغناء والمسرح في الوطن العربي وليس في لبنان فقط، بحضورها الطاغي وإبداعها المختلف.
الخجل كان السمة الواضحة على الطفلة نهاد وديع حداد التي اختار الموسيقي حليم الرومي لاحقا اسما فنيا لها وهو “فيروز نهاد التي ولدت في عام 1935، وكانت الابنة الكبرى لأسرة تعيش في غرفة واحدة بحارة زقاق البلاط في الحي القديم، وتساعد والدتها ليزا البستاني برعاية أشقائها الثلاثة الأصغر منها، بينما كان والدها يعمل في مطبعة الجريدة اللبنانية لوريون لوجور كانت نهاد لا تجيد تكوين الصداقات في المدرسة بسبب خجلها الشديد، إلا أن هذا الخجل لم يمنعها من الغناء، فلم يكن لدى العائلة المال الكافي لشراء راديو فكانت تغني لهم نهاد ما أتيح لها من الاستماع بالصدفة لنجوم الغناء وقتها مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان وليلى مراد.
نجومية من قلب بيروت
الميول الفنية ظهرت على فيروز مبكرا، فكانت تشارك في الحفلات المدرسية حتى قابلت بالصدفة محمد فليفل وهي في الـ14 من عمرها، فساعدها لتنضم إلى الكونسرفتوار لتتعلم أصول الموسيقى والغناء وهناك أعجب المدير الموسيقي للإذاعة في هذا الوقت حليم الرومي بصوتها واختار لها اسما فنيا وهو فيروز ولم يمنحها الرومي الاسم الفني فقط، ولكن أيضا الانطلاقة للنجاح من خلال ألحانه التي فتحت لها أبواب النجاح، فقدمت معه أغنية “يا حمام يا مروح” من كلمات الشاعر فتحي قورة، وعلى الرغم من غنائها في البدايات باللهجة المصرية؛ فإن فيروز حافظت على هويتها الغنائية اللبنانية فلم تنجرف للشهرة الكبيرة التي يحققها النجوم بمصر في هذا الوقت بل حققت شعبيتها ونجاحها في الوطن العربي من قلب لبنان.
مدارس شكلت مشوارها
فيلمون وهبي ومحمد عبد الوهاب وزكي ناصيف والرحبانية، مدارس موسيقية مختلفة شكلت مشوار فيروز الغنائي، إلا أنها طوال 3 عقود من هذا المشوار كان التعاون الممتد والأكبر مع الأخوين رحباني، حيث التقت بعاصي ومنصور الرحباني في الإذاعة مع مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، ليسطر الرحبانية شوطا مهما في مشوار فيروز الغنائي، عزز هذا التعاون زواجها من عاصي في منتصف الخمسينيات، والذي أنجبت منه أبناءها الأربعة زياد وليال التي رحلت عقب وفاة والدها بعام، وهلا وريما. لكن فيروز حافظت على التنوع، فكانت تقدم مع عاصي ومنصور أغاني مثل يا حنينة ونحن والقمر جيران ونحن الهوا جرحنا وعلى الجانب الآخر كانت تقدم مع فيلمون وهبي “يا ريت” ويا مرسال المراسيل وطلع لي البكي لتمزج في اختياراتها بين الألحان الشرقية والأنغام الغربية والفلكلور اللبناني الشعبي وخلقت هوية غنائية مختلفة عن السائد وقتها من الأغاني الشرقية الطويلة فقدمت الأغاني قصيرة المدة ذات الكلمات المعبرة. ولم تكتف فيروز بهذا التنوع، فغنت أيضا لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في أوائل الستينيات والذي لحن لها أغنية سهار بعد سهار وغنى لها ضمن كورال الأغنية بنفسه، وفي عام 1967 لحن لها سكن الليل ووقصيدة مر بي وهي من كلمات الشاعر سعيد عقل وقدمت فيروز الأغنيات في ألبوم قدمت فيه أغنيات غنتها لعبد الوهاب مثل “خايف أقول اللي في قلبي ويا جارة الوادي.
800 أغنية
قدمت فيروز في مشوار حافل وكبير ما يقرب من 800 أغنية بجانب الموشحات الأندلسية والمواويل والمسرح الغنائي الذي أضاف كثيرا لمسيرتها، حيث تنوعت موضوعات أغنياتها فلم تغني للحب فقط، حيث قدمت أعمال تحمل النقد السياسي والاجتماعي والتاريخي ومن المسرحيات التي قدمتها “المحطة وناطورة المفاتيح و”هاله والملك وناس من ورق وقدمت شخصية الملكة شاكيلا في مسرحية بترا وإلى جانب المسرح قدمت فيروز بعض الأفلام السينمائية منها فيلم بياع الخواتم مع المخرج المصري يوسف شاهين وقدمت مع المخرج هنري بركات فيلم سفر برلك -المنفى وبنت الحارس. ودعمت أيضا القضية الفلسطينية من خلال أغنياتها التي عبرت عن الغضب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي فغنت زهرة المدائن ويافا وسلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة وأنا لا أنساك فلسطين والقدس العتيقة وجسر العودة.
جرأة زياد
الصدفة منحت فيروز أيضا الفرصة للتجريب حين مرض زوجها عاصي أثناء الإعداد لمسرحية المحطة ليلحن ابنها زياد الرحباني لها أغنية سألوني الناس بدلا من والده في عام 1973 وفي أواخر التسعينيات قدمت ألبومها الأول مع زياد وحدن والذي كان تمهيدا لنقلة موسيقية لمشوار فيروز، وفي نفس العام الذي أطلقت فيه الألبوم، كانت قد أعلنت انفصالها الإنساني والفني عن عاصي الرحباني بعد ظهورهما معا في حفل كبير على مسرح الأولمبيا في فرنسا وتميزت مرحلة الثمانينيات والتسعينيات في مشوارها بالتجريب والجرأة الموسيقية بتقديم موسيقى الجاز بشكل واضح وصريح مع زياد، والذي قدمت معه 6 ألبومات غنائية، إلى جانب إعادة توزيع بعض ألحان والده عاصي مثل حبيتك بالصيف وشكل ألبوم إي في أمل ثورة في عالم الموسيقى بالمزج بين موسيقى الجاز والموسيقى الشعبية اللبنانية. لم تكتف فيروز بتعاونها مع زياد ففي عام 1994 صدر لها ألبوم فيروز تغني زكي ناصيف والذي شهد تعاونها مع الموسيقار الكبير زكي ناصيف فغنت ع دروب الهوى وسحرتنا البسمات وأهواك كما لحن لها السوري محمد محسن 4 أغنيات منها مش كاين هيك تكون.
قطيعة مع زياد
هذا النجاح الكبير الذي حققته فيروز مع ابنها زياد انتهى في عام 2013، بعد حوار أجراه لمجلة سنوب اللبنانية كشف فيه عن ميول والدته السياسية، وبأنها معجبة بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، والعقيد الليبي معمر القذافي والدكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين، وزعيم النازية أدولف هتلر والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وهو ما أغضبها بشدة فأصدرت بيان قالت فيه بأن ما صرح به زياد ليس أكثر من مجرد اجتهادات زيادية وهو ما تسبب في قطيعة لـ3 سنوات بينهما، وقد أعلن زياد بعدها عن الصلح بينهما النجاح الكبير الذي حققته فيروز مع ابنها زياد، كان على العكس تماما مع ابنتها ريما التي تتولى إدارة أعمالها، وكتبت لها كلمات ألبومها الأخير ببالي وتم طرحه في عام 2017، والذي لم يضف أي جديد لمسيرة فيروز الغنائية وافتقد كثيرا من حضورها وحازت فيروز على نجومية كبيرة في عالم الحفلات خاصة بعد مشاركتها مع الرحبانية في مهرجان بعلبك عام 1957، وحصلت على لقب العمود السابع لبعلبك، وبعد النجاح الكبير الذي حققته على المسرح توالت المهرجانات والحفلات في دمشق ومسرح البيكاديلي والعديد من المدن العربية والعالمية أيضا وفي أحد العروض التي قدمتها في المغرب استقبلها الملك الحسن الثاني ملك المغرب في المطار شخصيا، وفي عام 1999 أحيت حفلا غنائيا ضخما في لاس فيغاس، وأعلن عمدة المدينة رسميا بأن 15 ماي من هذا العام هو يوم فيروز.
زيارة الرئيس لمنزلها
وقد حصلت على العديد من التكريمات والأوسمة منها وسام الشرف عام 1963 والميدالية الذهبية من ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال عام 1975 ومنحها الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران وسام قائد الفنون والآداب عام 1988 ومنحها الرئيس جاك شيراك وسام فارس جوقة الشرف عام 1998 وفي 2015. تحول منزلها الذي نشأت فيه إلى متحف، بعد سنوات من إدراج المبنى ضمن لائحة المباني التراثية إلا أن تكريمها من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأرفع وسام “جوقة الشرف الفرنسي في 2020 حين زارها في منزلها في لبنان- لم يمر مرور الكرام، حيث تعرضت للانتقاد من البعض عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ممن ألقوا عليها اللوم لقلة ظهورها ورفضها لقاء جمهورها، بينما وافقت على استقبال الرئيس الفرنسي، واعتبار أن فرنسا هي من أسباب الأزمات التي تمر بها لبنان، ولكن على النقيض اعتبر كثيرون تكريم فيروز من الرئيس الفرنسي بأرفع الأوسمة يليق بمشوارها ومكانتها الكبيرة في عالم الفن.