تبدل عدسة الكاميرا قيمة الأماكن فتحول الزوايا المنسية إلى وجهات يقصدها عشاق السينما والتلفزيون فكم من مَعلم في مدينة إسطنبول اكتسب حياة جديدة بعد أن تألق على الشاشة وكم من شارع عابر أصبح مزارا مشهورا بفضل مشهد مؤثر أو لقطة خاطفة.
في إسطنبول لا يستدعي الحاضر وحده خطوات الزائر بل تستدعيه قصص راسخة في الوجدان. رصيف تردد عليه وقع مطاردة لاهثة وقصر أضاءته قصة حب عبرت القارات ومئذنة سامقة خلدتها لقطة خاطفة.نعت الأفلام والمسلسلات من إسطنبول أكثر من مجرد مدينة تزار فنسجت منها ذاكرة جماعية يتوق ملايين العشاق لاجتيازها مشيا على خطا أبطالهم المفضلين. أحياء مثل بلاط وقصور على البوسفور وأسواق تنبض بالحياة باتت تحمل بين جدرانها ظلال المشاهد وأصداء القصص.ولأن السينما والتلفزيون قد رسخا ملامح هذه المدينة في وجدان البشر أصبحت مواقع التصوير معالم يقصدها الزوار لا لمجرد جمالها بل لاستعادة مشهد أو لالتقاط صورة في المكان الذي عشقوه أول مرة عبر الشاشة.
قصر نور ومهن
على ضفاف البوسفور في الجانب الآسيوي من المدينة يتربع قصر تاريخي فخم في حي قنديلي تبدو شرفاته البيضاء كأنها تعانق المياه. هذا الصرح البديع أصبح معروفا لدى الجمهور باسم قصر نور ومهند نسبة للمسلسل الرومانسي الذي صور بين جدرانه ويحمل اسم بطليه نور ومهند.كان مسلسل نور بث في القنوات العربية في 2008 أول عمل يرس حب الجمهور العربي للدراما التركية والشرارة التي دفعت الكثيرين من العرب لاكتشاف إسطنبول عن قرب. وقد احتضن القصر مشاهد قصة الحب الحالم بين نور ومهند وسط أجواء من الفخامة البوسفورية فترك بصمة خاصة في ذاكرة كل من تابع تلك الحلقات. يحمل القصر في الأصل اسم عبود أفندي وبني في منتصف القرن التاسع عشر بتوقيع من المهندس العثماني الشهير جارابت باليان والذي حمل إلى هذا المكان روح الفخامة العثمانية التي لا تخطئها العين. ورغم أن القصر ملكية خاصة مغلقة ولا يستقبل الزوار فإن رؤيته من عرض البحر تترك أثرا لا يقل عن الدخول إليه خاصة لأولئك الذين عرفوه أولا عبر مشاهد المسلسل.
التقاط الصور
عقب عرض المسلسل بات هذا القصر محطة أساسية على جدول السياح القادمين من الشرق الأوسط وصار الزوار يتساءلون عن موقعه ويحرصون على رؤيته لدرجة أن بواخر مضيق البوسفور السياحية أصبحت تتوقف في مياه قنديلي ليشير المرشد إلى القصر ويتيح للركاب التقاط الصور واستعادة ذكريات المسلسل. تتعدد الطرق للوصول إلى قنديلي إلا أن الرحلة عبر مياه البوسفور تظل الأجمل، من حي أُسكودار على الطرف الآسيوي لإسطنبول يمتد الطريق الساحلي متعرجا بمحاذاة المضيق حتى يكشف عن القصر في هدوئه الفريد حيث يقف بين الماء والسماء حارسا لحكاية لا تزال حية في الذاكرة.
حي الحفرة
في قلب إسطنبول التاريخية وعلى ضفاف القرن الذهبي يقع حي بلاط العريق بأزقته المتعرجة وبيوته الملونة المتراصة. لطالما عرف هذا الحي بطابعه الشعبي الأصيل وأجوائه التي تمزج عبق الماضي بالحياة اليومية البسيطة لكن في السنوات الأخيرة ارتبط اسمه بلقب جديد هو حي الحفرة فبعد تصوير مسلسل الإثارة والجريمة التركي الحفرة في أزقته اكتسبت شوارع بلاط الضيقة شهرة خاصة وأضحت مزارا سياحيا لعشاق الدراما. تحوّلت أرجاء الحي إلى ما يشبه متحفا مفتوحا لاستحضار تفاصيل المسلسل فعلى الجدران كتابات وشعارات العصابة التي ظهرت في المشاهد والمقهى الشعبي الذي كان ملتقى شخصيات الحفرة بات يستقبل الزوار الفضوليين الراغبين في احتساء الشاي على المقاعد ذاتها التي جلس عليها أبطال القصة. وبفضل النجاح الكبير الذي حققه المسلسل في تركيا والعالم العربي بات حي بلاط يعج بالزائرين الباحثين عن تجربة أجواء الحفرة على أرض الواقع.
مطاردات ومعارك
فهنا يستطيع الزائر التجول في الأزقة نفسها التي شهدت مطاردات ومعارك درامية ويمر تحت حبال الغسيل المعلقة بين الشرفات والتي أضفت على المشاهد طابعها الواقعي المميز. ورغم لقب الحفرة المستجد فإن هذا المكان هو في الحقيقة جزء من حي بلاط ضمن منطقة الفاتح داخل أسوار إسطنبول القديمة بالقرب من جامع أيوب سلطان.
حي “بلاط”
ويعتبر الوصول إلى حي بلاط سهلا نسبيا إذ يمكن للزائر ركوب حافلة من منطقة أمينونو باتجاه أيوب والنزول عند بلاط ثم المشي باتجاه شارع السبيل متتبعا الكتابات الملونة على الجدران حتى يجد نفسه وسط أجواء الحفرة. وهناك بين الأزقة العتيقة سيشعر المرء وكأنه جزء من المشهد في حين تمضي الحياة الحقيقية من حوله في تمازج فريد بين الدراما والواقع.
قيامة أرطغرل
عند مشارف إسطنبول الشمالية تمتد أرض هادئة تحتضن واحدة من أكثر الحكايات التلفزيونية حضورا في الذاكرة حيث شيدت قرب قرية ريفا مدينة متكاملة لتكون مسرحا لملحمة قيامة أرطغرل المسلسل الذي أعاد رسم ملامح التاريخ وأسر قلوب الملايين. موقع تصوير مسلسل قيامة أرطغرل موقع الشركة المنتجة لم يفقد الموقع وهجه بانتهاء تصوير أرطغرل بل ازدادت نبضاته مع تصوير المؤسس عثمان موقع الشركة المنتجة هنا بين المروج الواسعة والخيام المنصوبة والأسواق الخشبية يتسلل إلى الزائر شعور غريب كما لو كان يعبر بوابة خفية إلى القرن الثالث عشر. ساحات التدريب أبراج المراقبة ميادين القتال كل زاوية تحمل آثار أقدام شخصيات ألفها المشاهد وتابعها بشغف. ولا يبدو المكان مجرد أستوديو تصوير بل أشبه بمدينة حية تنبض بحياة قبائل الكايي وأحلام المحاربين الأوائل. لم يفقد الموقع وهجه بانتهاء تصوير مسلسل أرطغرل بل ازدادت نبضاته مع استكمال مشاهد مسلسل المؤسس عثمان فكأنما روح البطل القديم لا تزال تتردد بين الخيام والميادين. وقد تحل هذا الموقع إلى وجهة يقصدها الزوار لا لمجرد المشاهدة بل لخوض تجربة كاملة من التجوال بين أسواق الخشب والحدادة إلى تذوق أطباق مستوحاة من وصفات عثمانية ضاربة بجذورها في الزمن. يعد هذا الموقع في قرية ريفا من أضخم مواقع الإنتاج التلفزيوني في أوروبا ويفتح أمام الزائرين ضمن جولات منظمة يومية وتبعد القرية عن وسط إسطنبول نحو ساعة بالسيارة لكن المسافة تتلاشى أمام متعة السير بين تفاصيل صنعت على مهل لتشبه الحياة كما كانت قبل قرون.
البازار الكبير
تحت قباب حجرية تعاقبت عليها القرون ووسط أزقة تتعرج بين دكاكين الذهب والتوابل ينبض البازار الكبير في إسطنبول بحياة لا تخبو. هنا في هذا السوق العتيق الذي يعود تاريخه للقرن الخامس عشر تنبض المدينة بتاريخها وروائحها وأصواتها المختلطة. كل ممر فيه يحمل آثار أقدام تجار وعابرين وكل زاوية تخبئ قصة من زمن بعيد. لكن التاريخ وحده لم يعد كافيا لرسم ملامح هذا المكان فذات يوم اجتاحت الكاميرات السوق وجعلت من أسطحه الضيقة والقباب العتيقة مسرحا لمغامرة لا تنسى.
سكاي فول
في بدايات فيلم “سكاي فول” اندفع جيمس بوند بدراجته النارية فوق بلاط البازار وأقواسه المرتفعة يقفز من قبة إلى أخرى متجاوزا الزمن والحشود بروح المغامرة امتزجت حينها إثارة هوليوود بروح إسطنبول الشرقية ليغدو السوق مشهدا سينمائيا لا ينسى. ولم تكن تلك المطاردة المشهورة الظهور الوحيد للبازار الكبير ومحيطه، ففي فيلم الأكشن “تيكن 2” للممثل ليام نيسون جابت السيارات شوارع حي أمينونو المجاورة واندفعت عبر زوايا ضيقة بجوار مسجد يني جامع وشقت طريقها وسط الزحام في مشهدٍ حبست فيه الأنفاس. بعد هذه المشاهد لم تعد أزقة البازار الكبير مجرد معبر للمتسوقين بل تحوّلت إلى مساحة تختلط فيها تجارة الشرق بإثارة السينما. بعد مشاهد فيلم “سكاي فول” لجيمس بوند و”تيكن2″ لليام نيسون لم تعد أزقة البازار الكبير مجرد معبر للمتسوقين بل تحولت إلى مساحة تختلط فيها تجارة الشرق بإثارة السينما. اليوم يقف الزائر وسط البازار الكبير وقد رفع رأسه نحو القباب القديمة متخيلا ظل جيمس بوند يحلق فوقه بدراجته أو يسير بخطا متأنية بين الحشود وهو يتذكر الهروب المحموم الذي صورته الكاميرات منذ سنوات. يقع البازار في قلب منطقة السلطان أحمد ويتاح لكل من يصل إلى المدينة القديمة سواء عبر الترام الذي يتوقف عند محطة بايزيد أو سيرا على الأقدام من مسجد آيا صوفيا والسوق المصري.