مجتمع

الأوروبيون من أصول آسيوية وأفريقية

مزيج متنوع من سلالات الأسلاف القدامى

 يعتقد أنصار التيارات العنصرية التي تؤمن بالتفوق العرقي الأبيض أن هناك أسلافا بيضاء نقية للأوروبيين قبل موجات الهجرة الحديثة.

 غير أن الاختبارات الجينية لبقايا المستوطنين القدامى تظهر أن أوروبا تكاد تكون بوتقة انصهار لهجرة سلالات الأسلاف من أفريقيا والشرق الأوسط وروسيا الحالية، التي ربما أتى منها آخر الأوروبيين الأوائل قبل نحو خمسة آلاف عام. وتظهر الكشوف أن أسلاف الأوروبيين الذين يعيشون على الأراضي الأوروبية اليوم جاؤوا قبل آلاف السنين من أماكن غير أوروبية، وجلبوا معهم عبر ثلاث موجات هجرة رئيسية، الفن والموسيقى والزراعة والمدن والخيول المستأنسة وابتكار العجلة وربما مرض الطاعون وحملوا جذور اللغات الهندية-الأوروبية التي يتم التحدث بها في معظم أنحاء القارة الأوروبية اليوم. وبينما تثير أيديولوجية اليمين العنصري الأبيض مخاوف من المهاجرين، وتتبنى سياسات ومواقف عدائية تجاههم، يقدم العلماء الآن إجابات جديدة ومختلفة على سؤال: من الأوروبيون حقًا؟ ومن أين جاؤوا.

 ذوبان في بوتقة الصهر

تشير نتائج حديثة إلى أن الأوروبيين الذين يعيشون اليوم في بلدان أوروبا هم مزيج متنوع من سلالات الأسلاف القدامى الذين انحدروا من أفريقيا والشرق الأوسط وروسيا وذابوا في بوتقة الصهر الأوروبية منذ العصر الجليدي، بحسب التقرير الذي أعده أندرو كاري لمجلة ناشونال جغرافيك.

وتنفي الدراسات جميعًا فكرة النقاء العرقي الأوروبي الذي يستند إليه أنصار اليمين العنصري في الغرب، وتجزم الأبحاث الجينية الحديثة بالأصول القديمة الأفريقية والشرق أوسطية والروسية لسكان القارة الأوروبية. وتقدم الحفريات الأثرية وتحليل الأسنان والعظام القديمة دلائل جينية على هجرات أفريقية وشرق أوسطية وروسية؛ شكلت سكان أوروبا الأوائل، وتوفر دراسة اللغويات ومجال علم الحفريات الجديد أدلة مشابهة تؤكد النتائج نفسها، وأصبح من الممكن خلال العقد الماضي ترتيب وتحليل الجينوم الكامل للبشر الذين عاشوا منذ عشرات آلاف السنين. وتثبت دراسة الحمض النووي أن البشر يتشاركون جميعاً قصة هجرة قديمة انحدر فيها جميع الناس من أسلاف غادروا أفريقيا قبل أكثر من ستين ألف عام، وأن أول البشر المعاصرين قد غامر بالهجرة نحو أوروبا منذ نحو 45 ألفا -التي كانت تغطيها الصفائح الجليدية-وذلك عبر الشرق الأوسط. وقالت دراسة علمية تعود لعام 2001 إن الأفارقة هم الآباء المؤسسون لأوروبا الحديثة، وأعلن باحثون أميركيون أن جميع سكان العالم ربما كانوا ينحدرون من أصول أفريقية أيضا. وحسب تلك الدراسة فإن أصل الأوروبيين يعود لبضع مئات من الأفارقة الذين تركوا موطنهم قبل 25 ألف عام. وتصدرت هذه الدراسة مؤتمر منظمة الجينوم البشري، وهي منظمة عالمية تبحث في موضوع تكون الجنس البشري، وتناقض الدراسة نظريات سابقة تقول إن الجنس البشري الحديث قد تطور بشكل متزامن في كل من آسيا وأفريقيا وأوروبا بالاعتماد على الإنسان الأول، بحسب تقرير سابق لوكالة أسوشيتد برس.

بشرة داكنة

ويشير الحمض النووي الخاص بهم إلى أن أول البشر المعاصرين لأوروبا ربما كانت لديهم بشرة داكنة وعيون فاتحة، في حين وجدت في المناطق الأوروبية التي وجد فيها بعض الدفء الحياة البرية والبشر البدائيون الذين هاجر أجدادهم من أفريقيا وتكيفوا مع الظروف الباردة والقاسية. ويفيد تقرير بمجلة ناشونال جغرافيك بأن البشر البدائيين في أوروبا عاشوا صيادين وجامعي محاصيل زراعية في مجموعات بدوية صغيرة، وتبعوا الأنهار، خاصة نهر الدانوب، لآلاف السنين. وظل البشر المعاصرون في الجنوب الخالي من الجليد متكيفين مع المناخ البارد، عندما اجتاح العصر الجليدي أوروبا قبل نحو 27 ألف عام، وعاشوا على الثدييات الكبيرة مثل الماموث والخيول وأسلاف الماشية الحديثة، واستقروا في الكهوف، حيث كانوا يحتمون من الطبيعة القاسية، وتركوا وراءهم لوحات ونقوش مذهلة. ومنذ نحو 14 ألفا وخمسمئة عام، عندما أصبحت أوروبا أكثر دفئا تبع البشر الأنهار الجليدية شمالًا، وطوروا أدوات حجرية، واستقروا في قرى صغيرة شكلت ملامح ما يسمى “العصر الحجري الأوسط”. وأتاح تحليل الحمض النووي من أسنان وعظام قديمة للباحثين فهم التحولات السكانية وتتبع موجة الهجرة الأفريقية القديمة وموجة الهجرة من الأناضول والشرق الأوسط اللاحقة لها.

تحليل الجينوم

أدى التقدم التقني في السنوات القليلة الماضية إلى جعل تقنية تحليل الجينوم رخيصة وفعالة، وصار بالإمكان اليوم تحليل تسلسل جزء من الهيكل العظمي المحفوظ جيدًا بنحو خمسمئة دولار فقط. وسهلت هذه التقنية الحصول على معلومات جديدة غيرت مسار علم الآثار، وتم في عام 2018 تحديد جينومات أكثر من ألف إنسان من عصور ما قبل التاريخ -معظمها من عظام قديمة محفورة جرى حفظها في المتاحف والمختبرات الأثرية- ودحضت هذه الكشوف بصفة علمية أي فكرة متداولة عن النقاء العرقي الأوروبي. وكانت بلاد الأناضول موطنًا للمزارعين القدامى منذ الأيام الأولى للزراعة، قبل أكثر من عشرة آلاف عام، وانتشرت في غضون ألف عام ثورة العصر الحجري الحديث -كما يطلق عليها شمالًا عبر الأناضول وإلى جنوب شرق أوروبا- في حين كانوا قبل نحو ستة آلاف سنة مزارعين ورعاة في جميع أنحاء أوروبا، بحسب تقرير مجلة ناشونال جغرافيك، غير أن سكان أوروبا عرفوا الزراعة عبر تركيا القديمة وبلاد الشام، لكن الباحثين لا يجزمون بأن المزارعين الأوروبيين القدامي جاؤوا من هذه البلاد نفسها. وتشير أدلة الحمض النووي من موقع بونجوكلو بجوار مدينة قونية التركية التي درسها يوهانس كراوس وفريقه في معهد ماكس بلانك الألماني لعلوم تاريخ الإنسان إلى أن مزارعي هذه القرية زرعوا مناطقهم وهاجر أحفادهم بعد قرون مئات الأميال إلى الشمال الغربي، ونشروا جيناتهم وأسلوب حياتهم في شتى أنحاء أوروبا. وأضافت الأدلة أن جينات الأحفاد نشروا أسلوب حياتهم في ساحل البحر المتوسط الشمالي وجزر سردينيا وصقلية وجنوب أوروبا والبرتغال وبريطانيا الحاليتين؛ إذ ظهرت بصمات الأناضول الجينية في كل مناطق الزراعة الأوروبية القديمة.

الهجرة الآسيوية

وأفاد فريق من الباحثين الدوليين في دراسة سابقة لمجلة الرابطة الأميركية لتقدم العلوم بأن الأوروبيين المعاصرين هم مزيج من ثلاث مجموعات، هي: الصيادون والمزارعون والسكان القدامى، وأن هذه المجموعات انتقلت بأعداد كبيرة بشكل منفصل منذ عدة آلاف سنة قبل الميلاد من السهول الروسية وشمال البحر الأسود وبلاد القوقاز إلى أوروبا. وأسهمت هذه المجموعات، لا سيما البدو الرعاة من قبائل لامنايا -الذين كانوا من أول من ركب الخيول في انتشار اللغات الهندو أوروبية عندما هاجروا غرباً بحثاً عن مراعي خضراء وتجولوا في شرق ووسط وغرب أوروبا، وجلبوا معهم نمط حياة متنقلا يعتمد على العربات في العصر الحجري الأوروبي وأسلحة وأدوات معدنية مبتكرة، وربما ساعدوا في دفع أوروبا نحو العصر البرونزي. وكشفت الدراسة عن أن الهجرة الجماعية لرعاة اليامنايا من السهول شمال البحر الأسود قد جلبت اللغات الهندية الأوروبية إلى أوروبا قبل نحو 4500 عام، وأن هذه اللغات تمثل معظم اللغات التي يتم التحدث بها في معظم أنحاء أوروبا في الوقت الحالي.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق
إغلاق